فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (27- 33):

قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دحاها (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ختم قصة فرعون- لعنه الله- بالعبرة، وكان أعظم عبرتها القدرة التامة لاسيما على البعث كما هي مشيرة إليه بأولها وآخرها، والعقوبة على التكذيب به لأن التكذيب به يجمع مجامع الشر والتصديق به يجمع مجامع الخير، وكانوا يستبعدونه لاستبعاد القدرة عليه، وصل به ما هو كالنتيجة منه، فقال مقرراً مخاطباً لأصحاب الشبهة الشاكين موقفاً لهم على القدرة منكراً عليهم استبعادهم وذلك ملتفتاً بعد تخصيص الخطاب به صلى الله عليه وسلم لما تقدم من دقة فهمه وجلالة علمه صلى الله عليه وسلم إلى عموم الخطاب لوضوح هذا البرهان لكل إنسان استعطافاً بهم في توبيخ: {أأنتم} أي أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً {أشد خلقاً} أي أصعب وأثقل من جهة التقدير والإيجاد {أم السماء} على ما فيها من السعة والكبر والعلو والمنافع.
ولما كان الجواب قطعاً: السماء- لما يرى من أعظمها لأن العالم الإنساني مختصر العالم الآفاقي، ويزيد الآفاقي طول البقاء مع عدم التأثر، وصل به قوله دليلاً على قدرته على البعث لقدرته على ما هو أشد منه لأن الذي قدر على ابتداء الأكبر هو على إعادة الأصغر أقدر، مبيناً لكيفية خلقه لها: {بناها} أي جعلها سقفاً للأرض على ما لها من العظمة، ثم بين البناء بقوله: {رفع سمكها} أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو سمنها الذاهب في العلو رفيعاً، قال في القاموس: السمك السقف، أو من أعلى البيت إلى أسفله، أو القامة من كل شيء، وقال أبو حيان: السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي يلي ما فوقها: {فسواها} أي عدلها عقب ذلك بأن جعلها مستوية لا شيء فيها أعلى من شيء ولا أخفض ولا فطور فيها، وأصلحها بما تم به كمالها من الكواكب وغيرها، وجعل مقدار تخن كل سماء وما بين كل سماءين وتخن كل أرض وما بين كل أرضين على السواء لا يزيد شيء من ذلك على الآخر أصلاً.
ولما كان كل من ذلك يدل على القدرة على البعث لأنه إيجاد ما هو أشد من خلق الآدمي من عدم، أتبعه ما يتصور به البعث في كل يوم وليلة مرتين فقال: {وأغطش} أي أظلم إظلاماً لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء {ليلها} أي بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه.
وأضافه إليها لأنه يحدث بحركتها، وبدأ به لأنه كان أولاً، والعدم قبل الوجود {وأخرج ضحاها} بطلوع شمسها فأضاء نهارها، فالآية من الاحتباك: دل بـ: {أغطش} على (أضاء) وبإخراج الضحى على إخفاء الضياء، ولعله عبر بالضحى عن النهار لأنه أزهر ما فيه وأقوى نوراً.
ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال: {والأرض} ولما كان المراد استغراق الزمان باستمرار الدحو، حذف الخافض فقال: {بعد ذلك} أي المذكور كله {دحاها} أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة.
ولما ذكر الدحو، أتبعه ما استلزمه من المنافع لتوقف السكنى المقصودة بالدحو عليه فقال كالمبين له من غير عاطف: {أخرج منها} أي الأرض {ماءها} بتفجير العيون، وإضافته إليها دليل على أنه فيها {ومرعاها} الذي يخرج بالماء، والمراد ما يرعى منها ومكانه وزمانه.
ولما ذكر الأرض ومنافعها، ذكر المراسي التي تم بها نفعها فقال: {والجبال} أي خاصة {أرساها} أي أثبتها وأقرها ومع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً لثباتها كما أن المراسي سبب لثبات السفينة.
ولما كانت الإعادة واضحة من تناول الحيوان المأكل والمشرب وغيرهما من المتاع فإنه كلما نقص منه شيء تناول ما قدر له ليعود ذلك أو بعضه، قال منبهاً على أنه كل يوم في إعادة بانياً حالاً مما تقدم تقديره: حال كونها {متاعاً} مقدراً {لكم} تتمتعون بما فيها من المنافع {ولأنعامكم} أي مواشكيم بالرعي وغيره. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)}
ثم اعلم أنه تعالى لما ختم هذه القصة رجع إلى مخاطبة منكري البعث، فقال: {أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في المقصود من هذا الاستدلال وجهان الأول: أنه استدلال على منكري البعث فقال: {أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء} فنبههم على أمر يعلم بالمشاهدة.
وذلك لأن خلقة الإنسان على صغره وضعفه، إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير، فبين تعالى أن خلق السماء أعظم، وإذا كان كذلك فخلقهم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدوراً لله تعالى فكيف ينكرون ذلك؟ ونظيره قوله: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] وقوله: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] والمعنى أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السماء أي عندكم، وفي تقديركم، فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد والثاني: أن المقصود من هذا الاستدلال بيان كونهم مخلوقين، وهذا القول ضعيف لوجهين أحدهما: أن من أنكر كون الإنسان مخلوقاً فبأن ينكره في السماء كان أولى وثانيهما: أن أول السورة كان في بيان مسألة الحشر والنشر، فحمل هذا الكلام عليه أولى.
المسألة الثانية:
قال الكسائي والفراء والزجاج: هذا الكلام تم عند قوله: {أَمِ السماء}.
ثم قوله تعالى: {بناها} ابتداء كلام آخر، وعند أبي حاتم الوقف على قوله: {بناها} قال: لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز، قال القفال: يقال: الرجل جاءك عاقل، أي الرجل الذي جاءك عاقل إذا ثبت أن هذا جائز في اللغة فنقول: الدليل على أن قوله: {بناها} صلة لما قبله أنه لو لم يكن صلة لكان صفة، فقوله: {بناها} صفة، ثم قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} صفة، فقد توالت صفتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى، فكان يجب إدخال العاطف فيما بينهما، كما في قوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} [النازعات: 29] فلما لم يكن كذلك علمنا أن قوله: {بناها} صلة للسماء، ثم قال: {رَفَعَ سَمْكَهَا} ابتداء بذكر صفته، وللفراء أن يحتج على قوله بأنه لو كان قوله: {بناها} صلة للسماء لكان التقدير: أم السماء (التي) بناها، وهذا يقتضي وجود سماء ما بناها الله، وذلك باطل.
المسألة الثالثة:
الذي يدل على أنه تعالى هو الذي بنى السماء وجوه أحدها: أن السماء جسم، وكل جسم محدث، لأن الجسم لو كان أزلياً لكان في الأزل إما أن يكون متحركاً أو ساكناً، والقسمان باطلان، فالقول بكون الجسم أزلياً باطل.
أما الحصر فلأنه إما أن يكون مستقرًّا حيث هو فيكون ساكناً، أو لا يكون مستقرًّا حيث هو فيكون متحركاً، وإنما قلنا: إنه يستحيل أن يكون متحركاً، لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال، وإنما قلنا: إنه يستحيل أن يكون ساكناً، لأن السكون وصف ثبوتي وهو ممكن الزوال، وكل ممكن الزوال مفتقر إلى الفاعل المختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فكل سكون محدث فيمتنع أن يكون أزلياً، وإنما قلنا: إن السكون وصف ثبوتي، لأنه يتبدل كون الجسم متحركاً بكونه ساكناً مع بقاء ذاته، فأحدهما لابد وأن يكون أمراً ثبوتياً، فإن كان الثبوتي هو السكون فقد حصل المقصود، وأن كان الثبوتي هو الحركة وجب أيضاً أن يكون السكون ثبوتياً، لأن الحركة عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان في غيره، والسكون عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان فيه بعينه، فالتفاوت بين الحركة والسكون ليس في الماهية، بل في المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير، وذلك وصف عارضي خارجي عن الماهية، وإذا كان كذلك فإذا ثبت أن تلك الماهية أمر وجودي في إحدى الصورتين وجب أن تكون كذلك في سورة أخرى، وإنما قلنا: إن سكون السماء جائز الزوال، لأنه لو كان واجباً لذاته لامتنع زواله، فكان يجب أن لا تتحرك السماء لكنا نراها الآن متحركة، فعلمنا أنها لو كانت ساكنة في الأزل، لكان ذلك السكون جائز الزوال، وإنما قلنا: إن ذلك السكون لما كان ممكناً لذاته، افتقر إلى الفاعل المختار لأنه لما كان ممكناً لذاته، فلابد له من مؤثر، وذلك المؤثر لا يجوز أن يكون موجباً، لأن ذلك الموجب إن كان واجباً، وكان غنياً في إيجابه لذلك المعلول عن شرط لزم من دوامه دوام ذلك الأثر، فكان يجب أن لا يزول للسكون وإن كان واجباً ومفتقرًا في إيجابه لذلك المعلول إلى شرط واجب لذاته، لزم من دوام العلة ودوام الشرط دوام المعلول، أما إن كان الموجب غير واجب لذاته، أو كان شرط إيجابه غير واجب لذاته كان الكلام فيه كالكلام في الأول، فيلزم التسلسل، وهو محال أو الإنتهاء إلى موجب واجب لذاته، وإلى شرط واجب لذاته، وحينئذ يعود الإلزام الأول، فثبت أن ذلك المؤثر لابد وأن يكون فاعلاً مختاراً، فإذاً كل سكون، فهول فعل فاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث، لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد، والقصد إلى تكوين الكائن، وتحصيل الحاصل محال، فثبت أن كل سكون فهو محدث، فثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم في الأزل لا متحركاً ولا ساكناً، فهو إذاً غير موجود في الأزل، فهو محدث، وإذا كان محدثاً افتقر في ذاته، وفي تركيب أجزائه إلى موجد، وذلك هو الله تعالى، فثبت بالعقل أن باني السماء هو الله تعالى.
الحجة الثانية: كل ما سوى الواجب فهو ممكن وكل ممكن محدث وكل محدث فعل صانع، إنما قلنا: كل ما سوى الواجب ممكن، لأنا لو فرضنا موجودين واجبين لذاتيهما لاشتركا في الوجود ولتباينا بالتعيين، فيكون كل منهما مركباً مما به المشاركة، ومما به الممايزة، وكل مركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فكل واحد من الواجبين بالذات ممكن بالذات هذا خلف، ثم ينقل الكلام إلى ذينك الجزأين، فإن كانا واجبين، كان كل واحد من تلك الأجزاء مركباً ويلزم التسلسل، وإن لم يكونا واجبين كان المفتقر إليهما أولى بعدم الوجود فثبت أن ماعدا الواجب ممكن وكل ممكن فله مؤثر وكل ما افتقر إلى المؤثر محدث، لأن الافتقار إلى المؤثر لا يمكن أن يتحقق حال البقاء لاستحالة إيجاد الموجد، فلابد وأن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم، وعلى التقديرين فالحدوث لازم فثبت أن ما سوى الواجب محدث وكل محدث فلابد له من محدث، فلابد للسماء من بان.
الحجة الثالثة: صريح العقل يشهد بأن جرم السماء لا يمتنع أن يكون أكبر مما هو الآن بمقدار خردلة، ولا يمتنع أن يكون أصغر بمقدار خردلة، فاختصاص هذا المقدار بالوقوع دون الأزيد والأنقص، لابد وأن يكون بمخصص، فثبت أنه لابد للسماء من بان: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى خلق شيئاً وأعطاه قدرة يتمكن ذلك المخلوق بتلك القدرة من خلق الأجسام فيكون خالق السماء وبانيها هو ذلك الشيء؟ الجواب: من العلماء من قال: المعلوم بالعقل أنه لابد للسماء من محدث وأنه لابد من الانتهاء آخر الأمر إلى قديم والإله قديم واجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فأما نفي الواسطة فإنما يعلم بالسمع فقوله في هذه الآية: {بناها} يدل على أن باني السماء هو الله لا غيره، ومنهم من قال بل العقل يدل على بطلانه لأنه لما ثبت أن كل ما عداه محدث ثبت أنه قادر لا موجب، والذي كان مقدوراً له إنما صح كونه مقدوراً له بكونه ممكناً، فإنك لو رفعت الإمكان بقي الوجوب أو الامتناع وهما يحيلان المقدورية، وإذا كان ما لأجله صح في البعض أن يكون مقدوراً لله وهو الإمكان والإمكان عام في الممكنات وجب أن يحصل في كل الممكنات صحة أن تكون مقدورة لله تعالى، وإذا ثبت ذلك ونسبة قدرته إلى الكل على السوية وجب أن يكون قادراً على الكل، وإذا ثبت أن الله قادر على الممكنات فلو قدرنا قادراً آخر قدر على بعض الممكنات، لزم وقوع مقدور واحد بين قادرين من جهة واحدة، وذلك محال، لأنه إما أن يقع بأحدهما دون الآخر وهو محال، لأنهما لما كانا مستقلين بالاقتضاء فليس وقوعه بهذا أولى من وقوعه بذاك أو بهما معاً، وهو أيضاً محال لأنه يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما معاً وغنياً عنهما معاً وهو محال، فثبت بهذا أنه لا يمكن وقوع ممكن آخر بسبب آخر سوى قدرة الله تعالى، وهذا الكلام جيد، لكن على قول من لا يثبت في الوجود مؤثراً سوى الواحد، فهذا جملة ما في هذا الباب.
واعلم أنه تعالى لما بين في السماء أنه بناها، بين بعد ذلك أنه كيف بناها، وشرح تلك الكيفية من وجوه:
أولها: ما يتعلق بالمكان، فقال تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا}.
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقاً، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكاً، فالمراد برفع سمكها شدة علوها حتى ذكروا أن ما بين الأرض وبينها مسيرة خمسمائة عام، و(قد) بين أصحاب الهيئة مقادير الأجرام الفلكية وأبعاد ما بين كل واحد منها وبين الأرض.
وقال آخرون: بل المراد: رفع سمكها من غير عمد.
وذلك مما لا يصح إلا من الله تعالى.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {فَسَوَّاهَا}.
وفيه وجهان الأول: المراد تسوية تأليفها، وقيل: بل المراد نفي الشقوق عنها، كقوله: {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} [الملك: 3] والقائلون بالقول الأول قالوا: {فَسَوَّاهَا} عام فلا يجوز تخصيصه بالتسوية في بعض الأشياء، ثم قال هذا يدل على كون السماء كرة، لأنه لو لم يكن كرة لكان بعض جوانبه سطحاً، والبعض زاوية، والبعض خطاً، ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا، والبعض أبعد، فلا تكون التسوية الحقيقة حاصلة، فوجب أن يكون كرة حتى تكون التسوية الحقيقة حاصلة، ثم قالوا لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار، فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرة؟.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)}
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضحاها}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أغطش قد يجيء لازماً، يقال: أغطش الليل إذا صار مظلماً ويجيء متعدياً يقال: أغطشه الله إذا جعله مظلماً، والغطش الظلمة، والأغطش شبه الأعمش، ثم هاهنا سؤال وهو أن الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسبب غروب الشمس، فقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلماً، وهو بعيد والجواب: معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير الله وتقديره: وحيئنذ لا يبقى الإشكال.
المسألة الثانية:
قوله: {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أخرج نهاراً، وإنما عبر عن النهار بالضحى، لأن الضحى أكمل أجزاء النهار في النور والضوء.
المسألة الثالثة:
إنما أضاف الليل والنهار إلى السماء، لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها، ثم غروبها وطلوعها إنما يحصلان بسبب حركة الفلك، فلهذا السبب أضاف الليل والنهار إلى السماء، ثم إنه تعالى لما وصف كيفية خلق السماء أتبعه بكيفية خلق الأرض وذلك من وجوه: الصفة الأولى: قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دحاها (30)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
دحاها بسطها، قال زيد بن عمرو بن نفيل:
دحاها فلما رآها استوت ** على الماء أرسى عليها الجبالا

وقال أمية بن أبي الصلت:
دحوت البلاد فسويتها ** وأنت على طيها قادر

قال أهل اللغة في هذه اللفظة لغتان دحوت أدحو، ودحيت أدحى، ومثله صفوت وصفيت ولحوت العود ولحيته وسأوت الرجل وسأيته وبأوت عليه وبأيت، وفي حديث على عليه السلام: «اللهم داحي المدحيات» أي باسط الأرضين السبع وهو المدحوات أيضاً، وقيل: أصل الدحو الإزالة للشيء من مكان إلى مكان، ومنه يقال: إن الصبي يدحو بالكرة أي يقذفها على وجه الأرض، وأدحى النعامة موضعه الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت ما فيه من حصى، حتى يتمهد له، وهذا يدل على أن معنى الدحو يرجع إلى الإزالة والتمهيد.
المسألة الثانية:
ظاهر الآية يقتضي كون الأرض بعد السماء، وقوله: في حم السجدة، {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [فصلت: 11] يقتضي كون السماء بعد الأرض، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [البقرة: 29] ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الوجوه أحدها: أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض أي بسطها ثالثاً، وذلك لأنها كانت أولاً كالكرة المجتمعة، ثم إن الله تعالى مدها وبسطها، فإن قيل الدلائل الاعتبارية دلت على أن الأرض الآن كرة أيضاً، وإشكال آخر وهو أن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي، فيستحيل أن يكون هذا الجسم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وثانيها: أن لا يكون معنى قوله: {دحاها}: مجرد البسط، بل يكون المراد أنه بسطها بسطاً مهيأ لنبات الأقوات وهذا هو الذي بينه بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} [النازعات: 31] وذلك لأن هذا الاستعداد لا يحصل للأرض إلا بعد وجود السماء فإن الأرض كالأم والسماء كالأب، وما لم يحصلا لم تتولد أولاً المعادن والنباتات والحيوانات وثالثها: أن يكون قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ} أي مع ذلك كقوله: {عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] أي مع ذلك، وقولك للرجل أنت كذا وكذا ثم أنت بعدها كذا لا تريد به الترتيب، وقال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يوم ذِي مَسْغَبَةٍ} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ} [البلد: 17] والمعنى وكان مع هذا من أهل الإيمان بالله، فهذا تقرير ما نقل عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جريج أنهم قالوا في قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} أي مع ذلك دحاها.
المسألة الثالثة:
لما ثبت أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً، ثم دحى الأرض بعد ذلك ثالثاً، ذكروا في تقدير تلك الأزمنة وجوهاً.
روي عن عبد الله بن عمر «خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دحيت الأرض» واعلم أن الرجوع في أمثال هذه الأشياء إلى كتب الحديث أولى.
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}
الصفة الثانية: قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
ماؤها عيونها المتفجرة بالماء ومرعاها رعيها، وهو في الأصل موضع الرعي، ونصب {الأرض} و{الجبال} بإضمار دحا وأرسى على شريطة التفسير، وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء،.
فإن قيل: هلا أدخل حرف العطف على {أخرج} قلنا لوجهين؟ الأول: أن يكون معنى {دحاها} بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لابد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المشارب والمآكل وإمكان القرار عليها بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها والثاني: أن يكون {أَخْرَجَ} حالاً، والتقدير والأرض بعد ذلك دحاها حال ما أخرج منها ماء ومرعاها.
المسألة الثانية:
أراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام، ونظيره قوله في النحل: {أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] وقال في سورة أخرى: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 25-26] إلى قوله: {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} [عبس: 32] فكذا في هذه الآية واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] وقرئ نرتع من الرعي، ثم قال ابن قتيبة قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} [الأنبياء: 30] فانظر كيف دل بقوله: {مَاءهَا ومرعاها} على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر، والحب والثمر والعصف والحطب، واللباس والدواء حتى النار والملح، أما النار فلا شك أنها من العيدان قال تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ النار التي تُورُونَ أأنتم أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 72 71] وأما الملح فلا شك أنه متولد من الماء، وأنت إذا تأملت علمت أن جميع ما يتنزه به الناس في الدنيا ويتلذذون به، فأصله الماء والنبات، ولهذا السبب تردد في وصف الجنة ذكرهما، فقال: {جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] ثم الذي يدل على أنه تعالى أراد بالمرعى كل ما يأكله الناس والأنعام قوله في آخر هذه الآية: {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} [النازعات: 33].
{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {والجبال أرساها} والكلام في شرح منافع الجبال قد تقدم.
ثم إنه تعالى لما بين كيفية خلقه الأرض وكمية منافعها قال: {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} والمعنى أنا إنما خلقنا هذه الأشياء متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم، واحتج به من قال: إن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح، والكلام فيه قد مر غير مرة، واعلم أنا بينا أنه تعالى إنما ذكر كيفية خلقة السماء والأرض ليستدل بها على كونه قادراً على الحشر والنشر، فلما قرر ذلك وبين إمكان الحشر عقلاً أخبر بعد ذلك عن وقوعه. اهـ.